قراءة فى كتاب الحب الإلهي في شعر المقدسي
صفحة 1 من اصل 1
قراءة فى كتاب الحب الإلهي في شعر المقدسي
قراءة فى كتاب الحب الإلهي في شعر المقدسي
المؤلفون الثلاثة علي حيدر وعيسى فارس وماهر عبد القادر وفى مقدمتهم تحدثوا عن أن كلمة الحب شغلت الصوفية شغلا عظيما فقالوا:
" ما من أمر أقض مضاجع الصوفية، فأرق ليلهم، وأقلق نهارهم مثل الحب. وما من كلمة لهج بها هؤلاء، وترنموا بها في أناشيدهم وأشعارهم مثل الحب؛ فالحب مذهبهم، والحب مشربهم، والحب ديدنهم. وهل كان المتصوفة من مبدأ أمرهم إلى نهاية مطافهم إلا عشاقا والهين متألهين؟"
وتحدثوا عن أن الحب عند المقدسى اتخذوا محورين حب الله وهو الغزل كما سموه وحب الرسول(ص) وهو ما سموه المديح النبوى فقالوا:
"والمحور الأساسي في شعر المقدسي كان الحب، وهذا الحب أخذ لديه مظهرين اثنين؛ فقد كانت لواعج شوقه تتجه أحيانا إلى النبي الكريم، فيعبر عنها بالمديح النبوي. كما كانت تسمو به الهمم أحيانا وترقى إلى الخالق سبحانه، فيعبر عن ذلك بالغزل الصوفي أو بالخمريات الصوفية.
ومن البداهة أن كلا النوعين يصبان، من حيث الغاية، في مصب واحد؛ فالله سبحانه هو الذي خاطب نبيه بقوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }. وقد ورد عن النبي الكريم قوله: { من أحبني فقد أحب الله}. ومنطق الأمور – ولاريب – يقتضي أن يكون حب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرعا لحب الله، أو رافدا له يصب فيه، والمقدسي أشار إلى هذا المعنى بقوله:
ولولاه ما زمت رحال مطينا ... إلى يثرب تبغي الذي هو يهواه
ومن ذا الذي اختاره الله، وخصه بحبه منذ القدم غير نبيه الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما عناه شاعرنا بقوله:
ولقد حبا الله العظيم محمدا ... بالحب منه في الزمان السابق"
ومما سبق نجد ان الثلاثة أقروا أن المديح النبوى هو جزء من حب الله من خلال الاستدلال بالآية والرواية
استهل القوم حديثهم بالغزل الصوفى عند المقدسى فقالوا:
"الغزل الصوفي في شعر المقدسي:
يشغل الغزل الصوفي مكانا واسعا من الإرث الشعري الذي خلفه ابن غانم، بل هو يشغل الحيز الأوسع من شعر المتصوفة على وجه العموم، ولا غرابة في هذا؛ وقد علمنا أن غاية الغايات لدى هؤلاء هي المعرفة الإلهية، أو القرب من الله سبحانه، بل الفناء الكلي في ذاته تعالى، حتى يصير المحب والمحبوب واحدا؛ فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل.
وإذا ما استعرضنا دواوين كبار شعراء التصوف؛ كالحسين بن منصور الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، والمقدسي، وأمثالهم من العرب وكسعد الدين الشيرازي، وسنائي، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وغيرهم من غير العرب. نجد أن الكثرة الكاثرة من أشعارهم تدور في فلك الحب ولوازمه؛ من شرح الأشواق، وشكوى البعد والهجر، ولوعة الحنين، إلى متعة النجوى، وجلال المشاهدة، ولذة القرب والوصال.
وبعد، فليس غلوا أن نقول: إن الأغراض الشعرية الأخرى التي نجدها لدى شعراء المتصوفة عموما، ولدى شاعرنا بطبيعة الحال، كانت تؤول إلى ذلك الحب الإلهي، بسبب مباشر أو غير مباشر، جلي أو خفي، وأن تلك الأغراض المختلفة ما كان لها أن توجد في أشعارهم أو تذكر لولا بواعث ذلك الحب ودواعيه، ولئن كان في مقدورنا التفريق – لدى الشعراء التقليديين – بين شعر الغزل وشعر الخمر " الحسيين "؛ في غاية كل منهما وفي طرائقه التعبيرية، والنظر إلى كل فن من الفنين نظرة مستقلة عن الآخر، فمن غير الجائز أن ننحو المنحى نفسه في فهمنا ودراستنا شعر المتصوفة؛ ذلك أن الخمر التي عنها يتحدثون، والسكر الذي فيه يهيمون، وما يلحق بذلك كله من ذكر الكأس والدن والحان، والساقي والشرب، وما إلى ذلك، ليس في حقيقته إلا مصطلحات ابتكروها، أو ألفاظا استعملوها استعمالا مجازيا، ليعبروا عما ينتابهم من أحوال الحب والقرب والوصال.
فسكر هؤلاء هو قربهم ووصالهم، وساقيهم هو محبوبهم، وكاساتهم هي تجلياته المتعددة، وعلى ذلك فإن شعر الخمر لدى المتصوفة هو شعر الغزل عينه - من هذا الوجه - وإن اختلفت الألفاظ وطرائق التعبير بين هذا وذاك.
ولا يختلف الأمر كثيرا حين يكون الحديث عن مقاماتهم الصوفية؛ فما الفناء والبقاء، والتجلي والمشاهدة، والقبض والبسط، والفرق والجمع، وما شابه ذلك إلا مصطلحات تعبر عن أحوال تنتاب القوم في سلوكهم وترقيهم في ميادين الحب والقرب والمعرفة الإلهية حتى إن كلامهم في الزهد وذم الدنيا، والرد على المنكرين، يرتبط – ولا شك – بهذا الحب، ويرجع إليه؛ فهل أعرض هؤلاء عن الدنيا، وتخلوا عن مباهجها ومغرياتها، وتحملوا لوم اللائمين، إلا تقربا من الله وزلفى ؟؟ فلا غرو –على هذا النحو – أن يكون شعر الغزل هو الغرض الأصيل في شعر المقدسي، وتكون الأغراض الأخرى فروعا له أو بعضا من لوازمه."
كلام الثلاثة تعرض لصفات الحب الإلهى المزعوم عند الصوفية مبررين هذا الشعر بمبرر لا مسوغ له وهو أنه تعبير عن مقاماتهم وأحوالهم والحقيقة أنه لا يوجد أحوال ولا مقامات فكل هذا الاختراعات ابتداع سوء يخالف قوله تعالى " ليس كمثله شىء" فذلك الشعر كله تشبيهات لله بخلقه وتشبيهات للخلق بالله
وتحدث الثلاثة عن العام والخاص فى الغزل الصوفى مقرين بأن كل شاعر منهم حالة خاصة وليس نموذج متكرر كما فى الغزل الحسى فقالوا
"العام والخاص في الغزل الصوفي:
رأينا توحد المتصوفة في حبهم وغزلهم؛ من جهة المقاصد والغايات، والأحوال والمقامات، ثم اتفاقهم في الأساليب التعبيرية، والمصطلحات الصوفية، فهل نفهم من ذلك أنهم كانوا جميعا يمثلون نموذجا واحدا، ذا طابع واحد، وذوق واحد، وغاية واحدة؛ فلا اختلاف في مشاربهم، ولا فرق في مواجدهم، وأن القارئ لا يجد فرقا بين أن يقرأ شعر ابن الفارض، أو يسمع شعر المقدسي، أو يتمعن في شعر ابن عربي؟
علينا أن نذكر هنا أن ما ينطبق على شعراء الغزل الصوفي – في هذا الصدد – ينطبق تماما على شعراء الغزل التقليدي، فهؤلاء أيضا يصدرون في أشعارهم عن عاطفة واحدة، كما يشتركون في أحاسيس واحدة؛ فالشوق والحنين، والهجر والوصال، والبعد واللقاء، والعذول الذي ينغص عيشهم، كل هذه من الأمور التي يشترك فيها شعراء الغزل الحسي، ومع ذلك فما كان هؤلاء يمثلون نموذجا واحدا مكرورا، وإنما كان لكل منهم تجربته وخصوصيته في الحب، وبالتالي فإن له خصوصياته وميزاته في الشعر والأدب."
وتحدثوا عن لغة الحب عند ابن غانم المقدسى فقالوا :
"لغة الحب عند المقدسي:
نحا المقدسي في التعبير عن عواطفه ومواجده وحبه الإلهي منحى الصوفية السابقين، في التعبير بأساليب مستمدة من شعر الغزل الإنساني، المعروف لدى الشعراء التقليديين، والعذريين منهم على وجه أخص، يقول قاسم غنى في هذا المعنى:
[ وكل من له معرفة بالأشعار العرفانية العربية، والأشعار الفارسية، بصورة خاصة، يعلم أن مسألة ميل الروح إلى الله هي من أهم المسائل الصوفية تقريبا، جاءت دائما بنفس الألفاظ والتعبيرات والاصطلاحات المتداولة بين العاشق والمعشوق الماديين. وهذا الشبه في الكلام من الكثرة بحيث لو لم يكن بيدنا مفتاح لأغراض الشاعر لاحترنا في فهم معاني تلك الأشعار ومراد الشاعر منها فنرى أحيانا أن العارفين الشعراء، ولاسيما ناظمو الغزل، قد استخدموا هذه العبارات الرمزية، ناظرين إلى الصناعة الأدبية، وقد جعلوا القارئ لا يستطيع أن يميز بين العشق الصوري والعشق الحقيقي ]"
وما قاله قاسم غنى عن عدم التمييز بين العشق الصورى والحقيقى فى شعر الصوفية انتقده الثلاثة بأن شعر المقدسى واضح بين فقالوا:
"على أننا في مطالعتنا شعر المقدسي - وبالرغم من جريه على سنن أسلافه في استخدام أساليب الغزل الإنساني– لم نجد مثل ذلك الالتباس، الذي يشير إليه غنى، في التمييز بين العشق الصوري والعشق الحقيقي، أو بين الحب البشري والحب الإلهي، والذي نجده لدى كثير من شعراء المتصوفة، ولاسيما شعراء الفرس منهم، فالمقاصد الإلهية في غزل المقدسي واضحة بينة، وكل ما يستخدمه من عبارات الغزل، وما يوشح به أفكاره ومعانيه من أستار الرمز، يبقى على قدر من الشفافية، بحيث يستطيع الناظر - وللوهلة الأولى في أغلب الأحيان - أن يرى ما تنطوي عليه من حب روحي سام، وأشواق إلهية راقية، تتعالى فوق المقاصد الحسية، والغايات البشرية. فإذا قرأنا قول شاعرنا:
في حبه يستعذب التعذيب ... وبذكره يحلو الهوى ويطيب
يا لائمي في حبه متعسفا ... أقصر فمالك من هواه نصيب
ما كل من يهوى يحب ولا الذي ... يقصى بعيد ولا القريب قريب
من لم يكن أهلا لحضرة قربه ... ذاك الذي في حالتيه غريب
فلن يخفى علينا – وإن لم يصرح في مقطوعته هذه باسم حبيبه – أنه يتحدث عن المحبوب الأزلي، فمن ذاك – من أرباب العشق البشري – الذي يستسيغ العذاب في الحب على هذا النحو، ويستوي لديه القرب والبعد الحسيان؛ إذ لا قيمة لوصال زائل أو لقاء عابر، ما لم يكن المحب مؤهلا للجلوس في حضرة القرب الأبدية،"
وكلام المقدسى من ضمن الخبل فلا أحد يستعذب أى يستحلى العذاب وهو الألم والوجع فلو كان حلوا ما أمر الله أن يعلنوا الكفر بالله حتى لا يعذبوا من قبل الكفار فى الدنيا كما قال تعالى :
"وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"
وما قاله لا يفرق عن المثل العامى ضرب الحبيب كأكل الزبيب
وحديثه عن اتباع الهوى يخالف نهى الله عن اتباع الهوى الذى يدخل النار وعدم اتباع الهوى يدخل الجنة كما قال تعالى :
"وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى"
وتحدثوا عن تفرقة المقدسى بين الهوى والحب فقالوا:
" ويفرق شاعرنا أيضا بين الهوى النفساني العابر والحب الروحاني الراسخ. وإذا استمعنا إلى قوله:
نحن من قوم إذا عشقوا ... بذلوا الأرواح في الطلب
وتفانوا في محبته ... كتفاني الذر في اللهب
كيف يخشى النار ذو حرق ... في لظى نار الغرام ربي
إن أمت عشقا فلا عجب ... هكذا أوصى إلي أبي
فلا نشك في أن العشق الذي ورثه الشاعر عن أبيه، وعن عمه، وهما بدورهما عن جده، وعن قومهم من الصوفية السابقين، هو عشق صوفي خالص وحب إلهي صرف، ولن تنصرف أفكارنا أو تتجه ظنوننا إلى حب بشري دنيوي، ثم لا نجد أنفسنا مضطرين إلى تمحل التأويلات الغريبة، كابن عربي حين اضطره غموض الرمز وغلوه إلى شرح ديوانه " ترجمان الأشواق"شرحا متكلفا أيما تكلف، ليدفع عن نفسه الريب الذي جره عليه شعره، إذ اضمحلت فيه الخطوط الفاصلة بين الحب الحسي والحب الروحي الرباني، وتلاشت بحيث يغدو التمييز بينهما أمرا عسيرا"
والتفرقة بين النفسى والروحى هو من ضمن الخبل فلا وجود للروح بمعنى الشىء الذى يموت إلا كونها النفس كما قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت" فالروح والنفس شىء واحد وليس شيئين
وتحدثوا عن استعماله لوازم العشق والغزل الحسي فى شعره فقالوا:
"وإذا كان شاعرنا المقدسي يستعير – أحيانا – من لوازم العشق والغزل الحسي ما قد يوهم السامع، قليل الخبرة بأساليب القوم، أنه غير جائز في باب العشق الإلهي، كقوله في عتاب الأحبة:
أعاتب من أهوى فيصغي تعطفا ... علي وأصغي بعد ذاك فيعتب
إليك فإن العشق للصب مهلك ... وفي طيه من جانب الصبر مطلب
ولا غرو إن أنكرت فرط صبابتي ... وداء الهوى صعب لمن لا يجرب
فبالنظر إلى مستهل القصيدة الذي يقول فيه:
حديث الهوى يملى علي فأطرب ... وكأس الرضا يجلى علي فأشرب
فلا عجب أني سكرت وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب أعجب
نجد من ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم ( كأس الرضا، البقاء بعد الفناء ) ما يؤكد أن الشاعر يرمي إلى حب إلهي لا بشري، وأن العتاب الذي يشير إليه الشاعر هو كالذي ورد في قوله تعالى لنبيه الكريم: { عفا الله عنك لم أذنت لهم }وفي قوله عليه الصلاة والسلام لربه، حين بلغ به أذى المشركين – في قصته مع ثقيف الطائف - مبلغه: { أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي } فقد عاتب الله النبي وعاتبه نبيه، وعتابهما يحمل على عتاب الأحبة، وهو أمر مألوف في مقام الحب."
وما قاله الشاعر فى الكلام المنقول يفرق تماما عن كلام الرواية المنسوبة للنبى(ص)فمن المحال أن يكون البقاء والفناء فى نفس الوقت" وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب"
ومن المحال أن يكون حب الله مهلك كما قال" فإن العشق للصب مهلك" لأنه منجى كما قال تعالى " وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم"
وتحدثوا عن ترفع الرجل عن الحب الأنثوى فقالوا :
"وفي أغلب الأحوال كان شاعرنا صريحا في غزله، مبينا في مقاصده الصوفية، ومعبرا تعبيرا مباشرا أحيانا عن ترفعه عن أية علاقة بشرية أو حب أنثوي، بل هو ينعت ذلك الحب البشري بالخسة والدناءة، يقول:
شغلت بمن أضحى فؤادي محله ... ولم يك شغلي بالرباب وعلوة
ولم ترض روحي بالدناءة إنما ... إلى عالم المعنى زممت مطيتي
فشاهدت معنى لو بدا كشف سره ... لصم الجبال الراسيات لدكت
على طور قلبي كان ميقات قربتي ... وفي قاب قوسي الحبيب تجلت
فلاح على الأشباح منها جلاله ... وفاح على الأرواح عطر نسيمتي
والأبيات – كما نرى – لا يمكن قراءتها إلا قراءة صوفية، فقوله: ( شغلت بمن أضحى فؤادي محله ) إشارة إلى الحديث القدسي: { ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن }وقوله: (عالم المعنى، وطور قلبي، وقاب قوسي الحبيب، وتجلت، والأشباح والأرواح ) كل هذه الأمور لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في إطار حب صوفي يتسامى فوق عالم المادة.
وفي قصيدة أخرى يعبر عن هذا المعنى أيضا، مؤكدا ترفعه عن الحب البشري في أرقى صوره، لأن لديه ما يشغله عن كل ما يصبو إليه أرباب الحب التقليدي، وأساطين الغزل العذري، ذاك هو المحبوب الأزلي الذي سكن قلبه، واستولى على جوارحه؛ فبه يسمع وبه يبصر، هو مقصوده إذا صرح، ومراده إذا كنى، إنه غاية الغايات، وكل ما في الجنان من نعيم خالد تطمح إليه النفوس، فإن شاعرنا لا يجد له قيمة تذكر، أو نفعا يرتجى، إلا أن يكون سببا في قربه من محبوبه، وهو أقصى ما تتمناه نفسه، ويهفو إليه قلبه:
فدعني من تغزل قيس ليلى ... ومن أبيات شعر جميل بثن
فبي شغف عن الأشعار يلهي ... وبي طرب عن الأوتار يغني
وفي إياي كل لطيف معنى ... فمني إن سمعت سمعت عني
أغني باسم حبي لا أكني ... وإن أك قد كنيت فذاك أعني
ولا أبغي النعيم ولست أرضى ... نعيما لا ولا جنات عدن
وما نفعي بدار لست فيها ... وأنت القصد يا أقصى التمني
وفي البيت الثاني نجد الإشارة واضحة إلى أن الفن ليس مقصودا لذاته، لدى شاعرنا؛ فالشعر والموسيقى عند الصوفية إنما هما وسيلتان لا غايتان، وهما من جملة الأدوات التي يستجلب بها القوم الشعور بالوجد الباطني، والغبطة الروحية، التي ينشدها هؤلاء، ويسعون إلى تحقيقها بمختلف السبل والأساليب."
بالقطع الترفع عن حب الأنثى أو عن جماع الزوجة إنما هو كفر بما جاء به الله وهو وجوب الزواج كما قال " انكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم"
فهذا الحب الذى يشيعه الرجل هو حب كفرى لأنه به يعمل على فناء البشرية بعدم الزواج ولو حاسبناه حسب الروايات لكان كافرا أيضا لأنه لم يقلد نبيه (ص) فى زواجه
وتحدثوا عما سموه لوازم الحب فقالوا :
"لوازم الحب:
1- البعد والفراق، وشوق المحبين:
يلخص الشاعر معاناة المحبين، وما يلقونه من ألم البعد وهجر الأحبة وصدهم، فيقول:
وهجر وصد وبعد لمن ... أحب؛ ثلاث من المضنيات
وهذه الأمور تضني العاشقين حقا، وتسبب لهم العناء والشقاء. ويشبه الشاعر ما يلقاه من ألم الصد ولوعة الشوق بنار الجحيم، ولاسيما أن ليل البعد يطول على العاشق حتى يخيل إليه أنه لا صبح بعده، ولا نهاية لعتمته، وفي الوقت نفسه لا مفر منه ولا مهرب:
أين المفر من الهوى ... هيهات "كلا لا وزر"
فذق المحبة واعتبر ... كم في المحبة من عبر
من ذا يطيق تصبرا ... ما في المحبة مصطبر
يا سيدي مالي أرى ... ليل الصدود بلا سحر
وليس للمحب العاشق إلا أن يذرف الدموع غزارا، تحت وطأة شوق أضنى جسده، حتى اعتراه النحول، وغلب عليه الاصفرار والذبول:
ركبوا الشوق في هواه وساروا ... ولهم أدمع عليه غزار
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... واعتراهم من النحول اصفرار
دموع وحسرات، ولوعة وآهات، وشوق كالنار يحرق قلوب العاشقين. فمتى يكون الوصل، وتنصلح حال المحبين؟!
أبكي عليك بدمع عيني الهاطل ... لعسى تبل غليل قلبي العاطل
يا ممرضي وطبيب قلبي في الهوى ... عد بالوصال عليل جسم ناحل
ذابت بنار الشوق فيك حشاشتي ... فمتى يكون صلاح حالي الحائل
ولا يجد المحب سلوانه إلا بالعيش مع الأمل، وترقب الوصال المنتظر، ويا لطول أمل العاشقين، فلئن لم يتحقق ما تصبو إليه قلوبهم في هذه الحياة، فغدا في الآخرة يكون لهم ما يرجون، وتتحقق أمانيهم كما يرغبون:
غدا يا معشر العشاق يعطى ... حليف الشوق منا ما تمنى
ونشهده وننظره عيانا ... ونظفر بالوصال كما وعدنا
فطوبى ثم طوبى ثم طوبى ... لمن بجمال مولاه تهنا
قد يألف المحب عذابه في الحب، فيحلو له هذا العذاب ويطيب، ويلذ له الألم ويسوغ:
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... بخضوع وذلة وانتحاب
جرعوا الصبر في هواه فطابوا ... وبه استعذبوا أليم العذاب
قدر المحبين أن يحترقوا بنار الحب، وعليهم أن يرضوا بذلك المقدور، فيسلموا به، ويستسلموا لمجاريه:
ولا غرو أن أصليت نار تحرقي ... فنار الهوى للعاشقين أعدت
ولم لا يكون منهم التسليم، وهذه النار لا مفر منها ولا مهرب:
نار المحبة أضرمت ... في القلب ترمي بالشرر
وهي التي اشتعلت فلا ... تبقي سواه ولا تذر
هيهات "كلا لا وزر"
ولكن هل يستطيع العاشق أن يحافظ على اتزانه في جميع الأحوال، فيسلم بقدره، ويلزم الصبر، ويتحمل الأذى؟ لا ريب في أن ضعفه البشري سوف يتغلب عليه ذات مرة؛ فيفقد صبره، ويضج بما يحمله قلبه من لوعة وحريق، ويصرخ في وجه عاذله، معبرا عن هذا المعنى، فيقول:
يا عاذلي في الحب دعني فقد ... حمل قلبي فيه مالا أطيق
جسم نحيل قد براه الضنى ... ومهجة حرى ودمع طليق
فكيف لي بالصبر يا لائمي ... والصبر في شرع الهوى لا يليق
بل إنه في بعض الأحيان تنتابه نوب من الشك والقلق، ويعبر عن خوفه الشديد من أن تخيب آماله، فتضيق به الحيلة، وتسد في وجهه الطرق، فيتساءل ويتساءل؛ متى يسعفه الحظ برؤية الأحباب؟ متى يكون الوصال؟ متى يحظى بالرضى؟ ... فيلجأ إلى التضرع والاستعطاف، راجيا ربه ألا يخيب آماله، وألا يبدد أحلامه:
إن فاتني وصلكم يا خيبة الأمل ... كيف احتيالي وقد ضاقت بكم حيلي
متى بعيني أرى يوم الوصال متى ... أرى رسول الرضى وافى على عجل
ألا فحنوا وجودوا واعطفوا كرما ... لا خيب الله فيكم سادتي أملي
وهكذا يركب المحب أمواج الحب، طورا يصعد وطورا يهبط، ولكنه في أغلب الأحيان يبدو قويا جلدا، تسمو به الهمم، فيرقى فوق الألم، ويحلو له العذاب، ويشعر بلذة الاضمحلال في الحبيب؛ فتفنى إرادته في إرادته، ويستسلم للموت راضيا به، مستمتعا بما يجده الناس مرا، ولم لا مادام قاضي الحب يقضي بذلك، ومادام هذا الموت الدنيوي تعقبه حياة في كنف الحبيب أبدية لانهاية لها ولا زوال:
ألفت روحي الغرام فما ... شاء قاضي الحب يفعل بي
إن يكن أرضاهم تلفي ... فرضاهم منتهى أربي
نحن من قوم إذا عشقوا ... بذلوا الأرواح في الطلب
هذه هي مصداقية الصوفية في حبهم؛ فهل بعد بذل الروح من تضحية ؟ أم فوق إتلاف النفس راضية في سبيل الحبيب من مصداقية وبرهان ؟!!.."
بالقطع الشعر السابق ملىء بالمخالفات لكتاب الله كنحول الأجسام وضناها فالله لم يطلب من الناس أن يمرضوا أنفسهم بأنفسهم وإنما بين لهم أن الله غنى عن احراجهم وهو إضرارهم بالتشريعات الضارة فقال :" وما جعل عليكم فى الدين من حرج"
وكذلك طلب رؤية الله عيانا مع أنه أمر محال بكل الطرق لكونه حلول واتحاد بالخلق فى المكان كما أن الله حرمه بقوله" لن ترانى"...
واللازمة الثانية التى تحدثوا عنها التوسل فقالوا:
"2- التضرع والتوسل والاستعطاف:
إذا برح الشوق بالمحب، وأقض مضجعه، ولم يجد حيلة إلى الوصال، فهل له إلا التضرع والتوسل إلى محبوبه، واستعطافه، عله يصفح عنه ويرضى، ويمن عليه بالوصل الذي يطمح إليه فكره، وتتوق نفسه، ويشتاق قلبه ؟. ولقد كثر في شعر صاحبنا التوسل والاستعطاف للمحبوب، فمن ذلك قوله:
من لي إذا أنا عن حماكم أمنع ... وبأي جاه عندكم أتشفع
وحماكم الرحب الوسيع لوارد ... ولصادر، قل لي فأين المرجع
فقري إليكم شافعي، ومدامعي ... تملي عليكم قصتي فتسمعوا
فأنا الذي علقت بكم آماله ... مالي وحقكمو سواكم مطمع
فلئن منعت رضاكمو دون الورى ... فأنا الطريد ببابكم أتضرع
ما حيلة المطرود إلا هكذا ... أبدا على أبوابكم يتخضع
ونجد مثل هذا يتكرر في قصائد أخرى، وهو يضيف إلى التوسل والاستعطاف إقرارا بالذنب، واعترافا بالخطيئة، وإحساسا مرا بالندم، ولعل فيما يسكبه من دموع الأسى والندم ما يلين قلب المحبوب، ويزيل ويلات غضبه، ونيران صدوده:
لك المشتكى إذ أنت بالحال أعلم ... ومنك الرجا إذ أنت بالعبد أرحم
فإن عظمت مني ذنوب تكاثرت ... فعفوك عن تلك الجرائم أعظم
وقد غرني جهلي بقبح خطيئتي ... وقد دلني علمي بأنك أكرم
إذا كنت تقصيني وأنت ذخيرتي ... لمن أشتكي حالي ومن فيه يحكم
لئن كان طردي عن حماك محللا ... فميلي إلى مولى سواك محرم
وإن كان دمعي من صدودك شافعي ... فما حيلتي إلا البكا والتندم
وشاعرنا لا يرى في هذا التضرع والخضوع للمحبوب لونا من ألوان الذل أو الضعف، أو الضعة، ولا يجد فيه ما يتعارض مع الشجاعة، والشهامة؛ فإن شرع الحب يسمح للمحب أن يذل لمحبوبه، وأن يبدي له الخضوع والاستسلام، من غير أن ينقص هذا من شهامته أو يحط من كرامته:
فإذا ذللت لعزنا ولهت لهيـ ... ـبتك الملوك وهابك السلطان
فاخضع وذل لمن تحب فإنه ... حكم الهوى أن تخضع الشجعان
ولا عجب في هذا، فالمحبوب هنا هو رب عزيز، من ذل لعزه عز، ومن اتضع لرفعته سما وارتفع. ويتكرر هذا المعنى في موضع آخر من ديوانه، ولكن في صيغة أخرى؛ خمرية غزلية، يقول:
وادن من دن حمياها وقف ... وقفة المضطر يكفى إذ دنا
وإذا نوديت من هذا الذي ... لزم الباب ذليلا ؟ قل: أنا
ولعل في تلوين الأساليب الذي اتسم به شعر الرجل ما يسوغ له ذلك التكرار في المعاني، وما ينفي عن قارئه الشعور بالملل؛ فالتكرار إن لم يكن له ما يسوغه من عناصر الجدة في العرض فوقعه على النفوس سمج ثقيل.
3- الطرد والهجر والقطيعة بعد الوصال:
لعل أقسى ما يعرض للمحبين هو الطرد بعد القرب، والقطيعة بعد الوصال، ونجد في شعر المقدسي ونثره شكوى مرة وتفجعا وحسرة تدل على تعرضه لمثل هذه الحال، التي هي أشد ألما وقسوة وتأثيرا في نفس العاشق الواصل، الذي عرضت له القطيعة بعد أن ذاق لذاذات القرب والوصال، وهذا ما أشار إليه الشاعر بقوله:
فإن يرضيكمو طردي وبعدي ... فصبري في محبتكم جميل
وحق قديم أيام التصابي ... سلوي عن هواكم مستحيل
قطعت بوصلكم أيام أنسي ... فلا أسلو وقد بقي القليل
وهو يشبه هجر المحبوب بالسيف، وحاله في بعده عن الحبيب بالقتل، وأي قتل، إنه القتل العمد، فقد توافرت نية الحبيب على هجره، الذي هو سبب قتله وموته:
قتلت بسيف هجركم اعتمادا ... فإن ترضوا فقد رضي القتيل
وفي موضع آخر يشبهه بنار الجحيم مرة، وبالموت مرة أخرى، بعد أن شبه لذة الوصال التي كان يعيشها بنعيم الجنان:
قد كان يأوي إلى جنات وصلكمو ... بالهجر حر لهيب النار مأواه
يغشاه فرط غرام من تذكركم ... وإنه المبتلى في الحب ذكراه
ما ضركم لو بعثتم طيف وصلكم ... لميت الهجر حياه فأحياه
إن شاعرنا ليرى نار الجحيم أقل ضراوة من نار القطيعة، لا بل إنه يسوغ له الاحتراق بالنار، ويطيب حرها، ويحلو لهيبها في ناظريه، في حين لا تقوى نفسه على تحمل حر القطيعة وسموم الهجر، يقول في مخمس:
لو قلت: رد في النار، طاب جحيمها ... وحلا وحقك في هواك حميمها
إلا القطيعة لا أطيق أسومها ... فلقد براني حرها وسمومها
والهم داء برؤه لم ينجع
ولعل فترة القطيعة تلك قد طالت على صاحبنا، ما جعله يكثر النوح والبكاء وذرف الدموع، وينظم الأشعار الكثيرة، معبرا عما عاناه في تلك الفترة، وفي كتاب " كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار " اتخذ من الطاووس رمزا لمقام الهجر بعد القرب، والقطيعة بعد الوصال، وعبر عن ذلك المعنى بقصيدة - على لسان الطاووس - بالغة التأثير، قال فيها:
وإذا ذكرت لياليا سلفت لنا ... في وصل أحبابي وظل ربوعي
فأكاد من حرقي أذوب صبابة ... لولا يجود علي فيض دموعي
ووعدتموني في الخيال بزورة ... فتضاعفت حرقي وزاد ولوعي
إن كان ذنبي صدني عن بابكم ... فإليكم فقري أعز شفيع
ماضي القطيعة لا يعاد وما جرى ... كاف وحسبي ذلتي وخضوعي
ويعقب المقدسي على الأبيات بقوله: [ فوالله لقد رثيت لمصابه، وبكيت لأوصابه، ولاشيء أنكى من الاغتراب بعد الاقتراب، ولا أمر من الحجاب، بعد مشاهدة الأحباب ].
ولعل هذا المقام هو عين ما سماه شيخ الصوفية الأكبر في " فتوحاته المكية " [ المنزل الذي يحط إليه الولي إذا طرده الحق تعالى من جواره ] وقدم له بهذه الأبيات التي تلخص معانيه وتبين سماته:
إذا حط الولي فليس إلا ... عروج وارتقاء في علو
فإن الحق لا تقييد فيه ... ففي عين النوى عين الدنو
فحال المجتبى في كل حال ... سمو في سمو في سمو
ويشبه ابن عربي تلك الحال بهبوط آدم من الجنة عقوبة له لمخالفته ربه ومقارفته ما نهاه عنه.
ولقد واجه المقدسي حال قطيعته بما ينبغي من الاعتراف بالذنب، والانكسار إلى الله سبحانه، والندم على
ما فرط في جنبه تعالى، والتزام الصبر، والوفاء بحقوق المولى، والمواظبة على طاعته، والحفاظ على عهده وحبه، وقد رأينا ذلك فيما مر من أشعاره، وفي كثير غيرها، كقوله:
هجرتم فيا لهف قلبي على ... زمان تقضى بطيب الوصال
مددت يدي مستغيثا بكم ... تشير إليكم بذل السؤال
ووجهت وجهي إلى بابكم ... فلا تحرموني ذاك الجمال
وأقسمت لا حلت عن عهدكم ... ولو ذقت فيكم أليم النكال
وإن تطردوني عن بابكم ... فحالي عن حبكم ما استحال
ويعبر هنا عن حفظه العهد، وبقائه على الحب، وتلهفه إلى أيام الوصال التي زالت وحرم نعيمها ولذاذاتها.
وفي مواطن أخرى نراه يقف موقف المعترف بالذنب، المقر بالتقصير، ولا يجد لنفسه حيلة إلا البكاء والندم على ما فات:
فإن عظمت مني ذنوب تكاثرت ... فعفوك عن تلك الجرائم أعظم
وقد غرني جهلي بقبح خطيئتي ... وقد دلني علمي بأنك أكرم
إذا كنت تقصيني وأنت ذخيرتي ... لمن أشتكي حالي ومن فيه يحكم
لئن كان طردي عن حماك محللا ... فميلي إلى مولى سواك محرم
وإن كان دمعي من صدودك شافعي ... فما حيلتي إلا البكا والتندم"
والحقيقة ان الشعر السابق لا يخلو من الاعتداء على دين الله بما فيه من مخالفات مثل الطيف والزورة والهجر فكلامه شبيه بشعر الصوفية وهم قوم اخترعوا وابتدعوا دينا غير ما فى كتاب الله ظنا منهم أنهم أحسن من باقى الناس مخالفين قوله " إنما المؤمنون اخوة " ومخالفين قوله " هو اعلم بمن اتقى"
المؤلفون الثلاثة علي حيدر وعيسى فارس وماهر عبد القادر وفى مقدمتهم تحدثوا عن أن كلمة الحب شغلت الصوفية شغلا عظيما فقالوا:
" ما من أمر أقض مضاجع الصوفية، فأرق ليلهم، وأقلق نهارهم مثل الحب. وما من كلمة لهج بها هؤلاء، وترنموا بها في أناشيدهم وأشعارهم مثل الحب؛ فالحب مذهبهم، والحب مشربهم، والحب ديدنهم. وهل كان المتصوفة من مبدأ أمرهم إلى نهاية مطافهم إلا عشاقا والهين متألهين؟"
وتحدثوا عن أن الحب عند المقدسى اتخذوا محورين حب الله وهو الغزل كما سموه وحب الرسول(ص) وهو ما سموه المديح النبوى فقالوا:
"والمحور الأساسي في شعر المقدسي كان الحب، وهذا الحب أخذ لديه مظهرين اثنين؛ فقد كانت لواعج شوقه تتجه أحيانا إلى النبي الكريم، فيعبر عنها بالمديح النبوي. كما كانت تسمو به الهمم أحيانا وترقى إلى الخالق سبحانه، فيعبر عن ذلك بالغزل الصوفي أو بالخمريات الصوفية.
ومن البداهة أن كلا النوعين يصبان، من حيث الغاية، في مصب واحد؛ فالله سبحانه هو الذي خاطب نبيه بقوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }. وقد ورد عن النبي الكريم قوله: { من أحبني فقد أحب الله}. ومنطق الأمور – ولاريب – يقتضي أن يكون حب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرعا لحب الله، أو رافدا له يصب فيه، والمقدسي أشار إلى هذا المعنى بقوله:
ولولاه ما زمت رحال مطينا ... إلى يثرب تبغي الذي هو يهواه
ومن ذا الذي اختاره الله، وخصه بحبه منذ القدم غير نبيه الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ما عناه شاعرنا بقوله:
ولقد حبا الله العظيم محمدا ... بالحب منه في الزمان السابق"
ومما سبق نجد ان الثلاثة أقروا أن المديح النبوى هو جزء من حب الله من خلال الاستدلال بالآية والرواية
استهل القوم حديثهم بالغزل الصوفى عند المقدسى فقالوا:
"الغزل الصوفي في شعر المقدسي:
يشغل الغزل الصوفي مكانا واسعا من الإرث الشعري الذي خلفه ابن غانم، بل هو يشغل الحيز الأوسع من شعر المتصوفة على وجه العموم، ولا غرابة في هذا؛ وقد علمنا أن غاية الغايات لدى هؤلاء هي المعرفة الإلهية، أو القرب من الله سبحانه، بل الفناء الكلي في ذاته تعالى، حتى يصير المحب والمحبوب واحدا؛ فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل.
وإذا ما استعرضنا دواوين كبار شعراء التصوف؛ كالحسين بن منصور الحلاج، وابن عربي، وابن الفارض، والمقدسي، وأمثالهم من العرب وكسعد الدين الشيرازي، وسنائي، وفريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وغيرهم من غير العرب. نجد أن الكثرة الكاثرة من أشعارهم تدور في فلك الحب ولوازمه؛ من شرح الأشواق، وشكوى البعد والهجر، ولوعة الحنين، إلى متعة النجوى، وجلال المشاهدة، ولذة القرب والوصال.
وبعد، فليس غلوا أن نقول: إن الأغراض الشعرية الأخرى التي نجدها لدى شعراء المتصوفة عموما، ولدى شاعرنا بطبيعة الحال، كانت تؤول إلى ذلك الحب الإلهي، بسبب مباشر أو غير مباشر، جلي أو خفي، وأن تلك الأغراض المختلفة ما كان لها أن توجد في أشعارهم أو تذكر لولا بواعث ذلك الحب ودواعيه، ولئن كان في مقدورنا التفريق – لدى الشعراء التقليديين – بين شعر الغزل وشعر الخمر " الحسيين "؛ في غاية كل منهما وفي طرائقه التعبيرية، والنظر إلى كل فن من الفنين نظرة مستقلة عن الآخر، فمن غير الجائز أن ننحو المنحى نفسه في فهمنا ودراستنا شعر المتصوفة؛ ذلك أن الخمر التي عنها يتحدثون، والسكر الذي فيه يهيمون، وما يلحق بذلك كله من ذكر الكأس والدن والحان، والساقي والشرب، وما إلى ذلك، ليس في حقيقته إلا مصطلحات ابتكروها، أو ألفاظا استعملوها استعمالا مجازيا، ليعبروا عما ينتابهم من أحوال الحب والقرب والوصال.
فسكر هؤلاء هو قربهم ووصالهم، وساقيهم هو محبوبهم، وكاساتهم هي تجلياته المتعددة، وعلى ذلك فإن شعر الخمر لدى المتصوفة هو شعر الغزل عينه - من هذا الوجه - وإن اختلفت الألفاظ وطرائق التعبير بين هذا وذاك.
ولا يختلف الأمر كثيرا حين يكون الحديث عن مقاماتهم الصوفية؛ فما الفناء والبقاء، والتجلي والمشاهدة، والقبض والبسط، والفرق والجمع، وما شابه ذلك إلا مصطلحات تعبر عن أحوال تنتاب القوم في سلوكهم وترقيهم في ميادين الحب والقرب والمعرفة الإلهية حتى إن كلامهم في الزهد وذم الدنيا، والرد على المنكرين، يرتبط – ولا شك – بهذا الحب، ويرجع إليه؛ فهل أعرض هؤلاء عن الدنيا، وتخلوا عن مباهجها ومغرياتها، وتحملوا لوم اللائمين، إلا تقربا من الله وزلفى ؟؟ فلا غرو –على هذا النحو – أن يكون شعر الغزل هو الغرض الأصيل في شعر المقدسي، وتكون الأغراض الأخرى فروعا له أو بعضا من لوازمه."
كلام الثلاثة تعرض لصفات الحب الإلهى المزعوم عند الصوفية مبررين هذا الشعر بمبرر لا مسوغ له وهو أنه تعبير عن مقاماتهم وأحوالهم والحقيقة أنه لا يوجد أحوال ولا مقامات فكل هذا الاختراعات ابتداع سوء يخالف قوله تعالى " ليس كمثله شىء" فذلك الشعر كله تشبيهات لله بخلقه وتشبيهات للخلق بالله
وتحدث الثلاثة عن العام والخاص فى الغزل الصوفى مقرين بأن كل شاعر منهم حالة خاصة وليس نموذج متكرر كما فى الغزل الحسى فقالوا
"العام والخاص في الغزل الصوفي:
رأينا توحد المتصوفة في حبهم وغزلهم؛ من جهة المقاصد والغايات، والأحوال والمقامات، ثم اتفاقهم في الأساليب التعبيرية، والمصطلحات الصوفية، فهل نفهم من ذلك أنهم كانوا جميعا يمثلون نموذجا واحدا، ذا طابع واحد، وذوق واحد، وغاية واحدة؛ فلا اختلاف في مشاربهم، ولا فرق في مواجدهم، وأن القارئ لا يجد فرقا بين أن يقرأ شعر ابن الفارض، أو يسمع شعر المقدسي، أو يتمعن في شعر ابن عربي؟
علينا أن نذكر هنا أن ما ينطبق على شعراء الغزل الصوفي – في هذا الصدد – ينطبق تماما على شعراء الغزل التقليدي، فهؤلاء أيضا يصدرون في أشعارهم عن عاطفة واحدة، كما يشتركون في أحاسيس واحدة؛ فالشوق والحنين، والهجر والوصال، والبعد واللقاء، والعذول الذي ينغص عيشهم، كل هذه من الأمور التي يشترك فيها شعراء الغزل الحسي، ومع ذلك فما كان هؤلاء يمثلون نموذجا واحدا مكرورا، وإنما كان لكل منهم تجربته وخصوصيته في الحب، وبالتالي فإن له خصوصياته وميزاته في الشعر والأدب."
وتحدثوا عن لغة الحب عند ابن غانم المقدسى فقالوا :
"لغة الحب عند المقدسي:
نحا المقدسي في التعبير عن عواطفه ومواجده وحبه الإلهي منحى الصوفية السابقين، في التعبير بأساليب مستمدة من شعر الغزل الإنساني، المعروف لدى الشعراء التقليديين، والعذريين منهم على وجه أخص، يقول قاسم غنى في هذا المعنى:
[ وكل من له معرفة بالأشعار العرفانية العربية، والأشعار الفارسية، بصورة خاصة، يعلم أن مسألة ميل الروح إلى الله هي من أهم المسائل الصوفية تقريبا، جاءت دائما بنفس الألفاظ والتعبيرات والاصطلاحات المتداولة بين العاشق والمعشوق الماديين. وهذا الشبه في الكلام من الكثرة بحيث لو لم يكن بيدنا مفتاح لأغراض الشاعر لاحترنا في فهم معاني تلك الأشعار ومراد الشاعر منها فنرى أحيانا أن العارفين الشعراء، ولاسيما ناظمو الغزل، قد استخدموا هذه العبارات الرمزية، ناظرين إلى الصناعة الأدبية، وقد جعلوا القارئ لا يستطيع أن يميز بين العشق الصوري والعشق الحقيقي ]"
وما قاله قاسم غنى عن عدم التمييز بين العشق الصورى والحقيقى فى شعر الصوفية انتقده الثلاثة بأن شعر المقدسى واضح بين فقالوا:
"على أننا في مطالعتنا شعر المقدسي - وبالرغم من جريه على سنن أسلافه في استخدام أساليب الغزل الإنساني– لم نجد مثل ذلك الالتباس، الذي يشير إليه غنى، في التمييز بين العشق الصوري والعشق الحقيقي، أو بين الحب البشري والحب الإلهي، والذي نجده لدى كثير من شعراء المتصوفة، ولاسيما شعراء الفرس منهم، فالمقاصد الإلهية في غزل المقدسي واضحة بينة، وكل ما يستخدمه من عبارات الغزل، وما يوشح به أفكاره ومعانيه من أستار الرمز، يبقى على قدر من الشفافية، بحيث يستطيع الناظر - وللوهلة الأولى في أغلب الأحيان - أن يرى ما تنطوي عليه من حب روحي سام، وأشواق إلهية راقية، تتعالى فوق المقاصد الحسية، والغايات البشرية. فإذا قرأنا قول شاعرنا:
في حبه يستعذب التعذيب ... وبذكره يحلو الهوى ويطيب
يا لائمي في حبه متعسفا ... أقصر فمالك من هواه نصيب
ما كل من يهوى يحب ولا الذي ... يقصى بعيد ولا القريب قريب
من لم يكن أهلا لحضرة قربه ... ذاك الذي في حالتيه غريب
فلن يخفى علينا – وإن لم يصرح في مقطوعته هذه باسم حبيبه – أنه يتحدث عن المحبوب الأزلي، فمن ذاك – من أرباب العشق البشري – الذي يستسيغ العذاب في الحب على هذا النحو، ويستوي لديه القرب والبعد الحسيان؛ إذ لا قيمة لوصال زائل أو لقاء عابر، ما لم يكن المحب مؤهلا للجلوس في حضرة القرب الأبدية،"
وكلام المقدسى من ضمن الخبل فلا أحد يستعذب أى يستحلى العذاب وهو الألم والوجع فلو كان حلوا ما أمر الله أن يعلنوا الكفر بالله حتى لا يعذبوا من قبل الكفار فى الدنيا كما قال تعالى :
"وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم"
وما قاله لا يفرق عن المثل العامى ضرب الحبيب كأكل الزبيب
وحديثه عن اتباع الهوى يخالف نهى الله عن اتباع الهوى الذى يدخل النار وعدم اتباع الهوى يدخل الجنة كما قال تعالى :
"وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى"
وتحدثوا عن تفرقة المقدسى بين الهوى والحب فقالوا:
" ويفرق شاعرنا أيضا بين الهوى النفساني العابر والحب الروحاني الراسخ. وإذا استمعنا إلى قوله:
نحن من قوم إذا عشقوا ... بذلوا الأرواح في الطلب
وتفانوا في محبته ... كتفاني الذر في اللهب
كيف يخشى النار ذو حرق ... في لظى نار الغرام ربي
إن أمت عشقا فلا عجب ... هكذا أوصى إلي أبي
فلا نشك في أن العشق الذي ورثه الشاعر عن أبيه، وعن عمه، وهما بدورهما عن جده، وعن قومهم من الصوفية السابقين، هو عشق صوفي خالص وحب إلهي صرف، ولن تنصرف أفكارنا أو تتجه ظنوننا إلى حب بشري دنيوي، ثم لا نجد أنفسنا مضطرين إلى تمحل التأويلات الغريبة، كابن عربي حين اضطره غموض الرمز وغلوه إلى شرح ديوانه " ترجمان الأشواق"شرحا متكلفا أيما تكلف، ليدفع عن نفسه الريب الذي جره عليه شعره، إذ اضمحلت فيه الخطوط الفاصلة بين الحب الحسي والحب الروحي الرباني، وتلاشت بحيث يغدو التمييز بينهما أمرا عسيرا"
والتفرقة بين النفسى والروحى هو من ضمن الخبل فلا وجود للروح بمعنى الشىء الذى يموت إلا كونها النفس كما قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت" فالروح والنفس شىء واحد وليس شيئين
وتحدثوا عن استعماله لوازم العشق والغزل الحسي فى شعره فقالوا:
"وإذا كان شاعرنا المقدسي يستعير – أحيانا – من لوازم العشق والغزل الحسي ما قد يوهم السامع، قليل الخبرة بأساليب القوم، أنه غير جائز في باب العشق الإلهي، كقوله في عتاب الأحبة:
أعاتب من أهوى فيصغي تعطفا ... علي وأصغي بعد ذاك فيعتب
إليك فإن العشق للصب مهلك ... وفي طيه من جانب الصبر مطلب
ولا غرو إن أنكرت فرط صبابتي ... وداء الهوى صعب لمن لا يجرب
فبالنظر إلى مستهل القصيدة الذي يقول فيه:
حديث الهوى يملى علي فأطرب ... وكأس الرضا يجلى علي فأشرب
فلا عجب أني سكرت وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب أعجب
نجد من ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم ( كأس الرضا، البقاء بعد الفناء ) ما يؤكد أن الشاعر يرمي إلى حب إلهي لا بشري، وأن العتاب الذي يشير إليه الشاعر هو كالذي ورد في قوله تعالى لنبيه الكريم: { عفا الله عنك لم أذنت لهم }وفي قوله عليه الصلاة والسلام لربه، حين بلغ به أذى المشركين – في قصته مع ثقيف الطائف - مبلغه: { أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي } فقد عاتب الله النبي وعاتبه نبيه، وعتابهما يحمل على عتاب الأحبة، وهو أمر مألوف في مقام الحب."
وما قاله الشاعر فى الكلام المنقول يفرق تماما عن كلام الرواية المنسوبة للنبى(ص)فمن المحال أن يكون البقاء والفناء فى نفس الوقت" وإنما ... بقائي وقد أفناني الحب"
ومن المحال أن يكون حب الله مهلك كما قال" فإن العشق للصب مهلك" لأنه منجى كما قال تعالى " وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم"
وتحدثوا عن ترفع الرجل عن الحب الأنثوى فقالوا :
"وفي أغلب الأحوال كان شاعرنا صريحا في غزله، مبينا في مقاصده الصوفية، ومعبرا تعبيرا مباشرا أحيانا عن ترفعه عن أية علاقة بشرية أو حب أنثوي، بل هو ينعت ذلك الحب البشري بالخسة والدناءة، يقول:
شغلت بمن أضحى فؤادي محله ... ولم يك شغلي بالرباب وعلوة
ولم ترض روحي بالدناءة إنما ... إلى عالم المعنى زممت مطيتي
فشاهدت معنى لو بدا كشف سره ... لصم الجبال الراسيات لدكت
على طور قلبي كان ميقات قربتي ... وفي قاب قوسي الحبيب تجلت
فلاح على الأشباح منها جلاله ... وفاح على الأرواح عطر نسيمتي
والأبيات – كما نرى – لا يمكن قراءتها إلا قراءة صوفية، فقوله: ( شغلت بمن أضحى فؤادي محله ) إشارة إلى الحديث القدسي: { ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن }وقوله: (عالم المعنى، وطور قلبي، وقاب قوسي الحبيب، وتجلت، والأشباح والأرواح ) كل هذه الأمور لا يمكن فهمها وتفسيرها إلا في إطار حب صوفي يتسامى فوق عالم المادة.
وفي قصيدة أخرى يعبر عن هذا المعنى أيضا، مؤكدا ترفعه عن الحب البشري في أرقى صوره، لأن لديه ما يشغله عن كل ما يصبو إليه أرباب الحب التقليدي، وأساطين الغزل العذري، ذاك هو المحبوب الأزلي الذي سكن قلبه، واستولى على جوارحه؛ فبه يسمع وبه يبصر، هو مقصوده إذا صرح، ومراده إذا كنى، إنه غاية الغايات، وكل ما في الجنان من نعيم خالد تطمح إليه النفوس، فإن شاعرنا لا يجد له قيمة تذكر، أو نفعا يرتجى، إلا أن يكون سببا في قربه من محبوبه، وهو أقصى ما تتمناه نفسه، ويهفو إليه قلبه:
فدعني من تغزل قيس ليلى ... ومن أبيات شعر جميل بثن
فبي شغف عن الأشعار يلهي ... وبي طرب عن الأوتار يغني
وفي إياي كل لطيف معنى ... فمني إن سمعت سمعت عني
أغني باسم حبي لا أكني ... وإن أك قد كنيت فذاك أعني
ولا أبغي النعيم ولست أرضى ... نعيما لا ولا جنات عدن
وما نفعي بدار لست فيها ... وأنت القصد يا أقصى التمني
وفي البيت الثاني نجد الإشارة واضحة إلى أن الفن ليس مقصودا لذاته، لدى شاعرنا؛ فالشعر والموسيقى عند الصوفية إنما هما وسيلتان لا غايتان، وهما من جملة الأدوات التي يستجلب بها القوم الشعور بالوجد الباطني، والغبطة الروحية، التي ينشدها هؤلاء، ويسعون إلى تحقيقها بمختلف السبل والأساليب."
بالقطع الترفع عن حب الأنثى أو عن جماع الزوجة إنما هو كفر بما جاء به الله وهو وجوب الزواج كما قال " انكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم"
فهذا الحب الذى يشيعه الرجل هو حب كفرى لأنه به يعمل على فناء البشرية بعدم الزواج ولو حاسبناه حسب الروايات لكان كافرا أيضا لأنه لم يقلد نبيه (ص) فى زواجه
وتحدثوا عما سموه لوازم الحب فقالوا :
"لوازم الحب:
1- البعد والفراق، وشوق المحبين:
يلخص الشاعر معاناة المحبين، وما يلقونه من ألم البعد وهجر الأحبة وصدهم، فيقول:
وهجر وصد وبعد لمن ... أحب؛ ثلاث من المضنيات
وهذه الأمور تضني العاشقين حقا، وتسبب لهم العناء والشقاء. ويشبه الشاعر ما يلقاه من ألم الصد ولوعة الشوق بنار الجحيم، ولاسيما أن ليل البعد يطول على العاشق حتى يخيل إليه أنه لا صبح بعده، ولا نهاية لعتمته، وفي الوقت نفسه لا مفر منه ولا مهرب:
أين المفر من الهوى ... هيهات "كلا لا وزر"
فذق المحبة واعتبر ... كم في المحبة من عبر
من ذا يطيق تصبرا ... ما في المحبة مصطبر
يا سيدي مالي أرى ... ليل الصدود بلا سحر
وليس للمحب العاشق إلا أن يذرف الدموع غزارا، تحت وطأة شوق أضنى جسده، حتى اعتراه النحول، وغلب عليه الاصفرار والذبول:
ركبوا الشوق في هواه وساروا ... ولهم أدمع عليه غزار
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... واعتراهم من النحول اصفرار
دموع وحسرات، ولوعة وآهات، وشوق كالنار يحرق قلوب العاشقين. فمتى يكون الوصل، وتنصلح حال المحبين؟!
أبكي عليك بدمع عيني الهاطل ... لعسى تبل غليل قلبي العاطل
يا ممرضي وطبيب قلبي في الهوى ... عد بالوصال عليل جسم ناحل
ذابت بنار الشوق فيك حشاشتي ... فمتى يكون صلاح حالي الحائل
ولا يجد المحب سلوانه إلا بالعيش مع الأمل، وترقب الوصال المنتظر، ويا لطول أمل العاشقين، فلئن لم يتحقق ما تصبو إليه قلوبهم في هذه الحياة، فغدا في الآخرة يكون لهم ما يرجون، وتتحقق أمانيهم كما يرغبون:
غدا يا معشر العشاق يعطى ... حليف الشوق منا ما تمنى
ونشهده وننظره عيانا ... ونظفر بالوصال كما وعدنا
فطوبى ثم طوبى ثم طوبى ... لمن بجمال مولاه تهنا
قد يألف المحب عذابه في الحب، فيحلو له هذا العذاب ويطيب، ويلذ له الألم ويسوغ:
لو تراهم وسقمهم قد براهم ... بخضوع وذلة وانتحاب
جرعوا الصبر في هواه فطابوا ... وبه استعذبوا أليم العذاب
قدر المحبين أن يحترقوا بنار الحب، وعليهم أن يرضوا بذلك المقدور، فيسلموا به، ويستسلموا لمجاريه:
ولا غرو أن أصليت نار تحرقي ... فنار الهوى للعاشقين أعدت
ولم لا يكون منهم التسليم، وهذه النار لا مفر منها ولا مهرب:
نار المحبة أضرمت ... في القلب ترمي بالشرر
وهي التي اشتعلت فلا ... تبقي سواه ولا تذر
هيهات "كلا لا وزر"
ولكن هل يستطيع العاشق أن يحافظ على اتزانه في جميع الأحوال، فيسلم بقدره، ويلزم الصبر، ويتحمل الأذى؟ لا ريب في أن ضعفه البشري سوف يتغلب عليه ذات مرة؛ فيفقد صبره، ويضج بما يحمله قلبه من لوعة وحريق، ويصرخ في وجه عاذله، معبرا عن هذا المعنى، فيقول:
يا عاذلي في الحب دعني فقد ... حمل قلبي فيه مالا أطيق
جسم نحيل قد براه الضنى ... ومهجة حرى ودمع طليق
فكيف لي بالصبر يا لائمي ... والصبر في شرع الهوى لا يليق
بل إنه في بعض الأحيان تنتابه نوب من الشك والقلق، ويعبر عن خوفه الشديد من أن تخيب آماله، فتضيق به الحيلة، وتسد في وجهه الطرق، فيتساءل ويتساءل؛ متى يسعفه الحظ برؤية الأحباب؟ متى يكون الوصال؟ متى يحظى بالرضى؟ ... فيلجأ إلى التضرع والاستعطاف، راجيا ربه ألا يخيب آماله، وألا يبدد أحلامه:
إن فاتني وصلكم يا خيبة الأمل ... كيف احتيالي وقد ضاقت بكم حيلي
متى بعيني أرى يوم الوصال متى ... أرى رسول الرضى وافى على عجل
ألا فحنوا وجودوا واعطفوا كرما ... لا خيب الله فيكم سادتي أملي
وهكذا يركب المحب أمواج الحب، طورا يصعد وطورا يهبط، ولكنه في أغلب الأحيان يبدو قويا جلدا، تسمو به الهمم، فيرقى فوق الألم، ويحلو له العذاب، ويشعر بلذة الاضمحلال في الحبيب؛ فتفنى إرادته في إرادته، ويستسلم للموت راضيا به، مستمتعا بما يجده الناس مرا، ولم لا مادام قاضي الحب يقضي بذلك، ومادام هذا الموت الدنيوي تعقبه حياة في كنف الحبيب أبدية لانهاية لها ولا زوال:
ألفت روحي الغرام فما ... شاء قاضي الحب يفعل بي
إن يكن أرضاهم تلفي ... فرضاهم منتهى أربي
نحن من قوم إذا عشقوا ... بذلوا الأرواح في الطلب
هذه هي مصداقية الصوفية في حبهم؛ فهل بعد بذل الروح من تضحية ؟ أم فوق إتلاف النفس راضية في سبيل الحبيب من مصداقية وبرهان ؟!!.."
بالقطع الشعر السابق ملىء بالمخالفات لكتاب الله كنحول الأجسام وضناها فالله لم يطلب من الناس أن يمرضوا أنفسهم بأنفسهم وإنما بين لهم أن الله غنى عن احراجهم وهو إضرارهم بالتشريعات الضارة فقال :" وما جعل عليكم فى الدين من حرج"
وكذلك طلب رؤية الله عيانا مع أنه أمر محال بكل الطرق لكونه حلول واتحاد بالخلق فى المكان كما أن الله حرمه بقوله" لن ترانى"...
واللازمة الثانية التى تحدثوا عنها التوسل فقالوا:
"2- التضرع والتوسل والاستعطاف:
إذا برح الشوق بالمحب، وأقض مضجعه، ولم يجد حيلة إلى الوصال، فهل له إلا التضرع والتوسل إلى محبوبه، واستعطافه، عله يصفح عنه ويرضى، ويمن عليه بالوصل الذي يطمح إليه فكره، وتتوق نفسه، ويشتاق قلبه ؟. ولقد كثر في شعر صاحبنا التوسل والاستعطاف للمحبوب، فمن ذلك قوله:
من لي إذا أنا عن حماكم أمنع ... وبأي جاه عندكم أتشفع
وحماكم الرحب الوسيع لوارد ... ولصادر، قل لي فأين المرجع
فقري إليكم شافعي، ومدامعي ... تملي عليكم قصتي فتسمعوا
فأنا الذي علقت بكم آماله ... مالي وحقكمو سواكم مطمع
فلئن منعت رضاكمو دون الورى ... فأنا الطريد ببابكم أتضرع
ما حيلة المطرود إلا هكذا ... أبدا على أبوابكم يتخضع
ونجد مثل هذا يتكرر في قصائد أخرى، وهو يضيف إلى التوسل والاستعطاف إقرارا بالذنب، واعترافا بالخطيئة، وإحساسا مرا بالندم، ولعل فيما يسكبه من دموع الأسى والندم ما يلين قلب المحبوب، ويزيل ويلات غضبه، ونيران صدوده:
لك المشتكى إذ أنت بالحال أعلم ... ومنك الرجا إذ أنت بالعبد أرحم
فإن عظمت مني ذنوب تكاثرت ... فعفوك عن تلك الجرائم أعظم
وقد غرني جهلي بقبح خطيئتي ... وقد دلني علمي بأنك أكرم
إذا كنت تقصيني وأنت ذخيرتي ... لمن أشتكي حالي ومن فيه يحكم
لئن كان طردي عن حماك محللا ... فميلي إلى مولى سواك محرم
وإن كان دمعي من صدودك شافعي ... فما حيلتي إلا البكا والتندم
وشاعرنا لا يرى في هذا التضرع والخضوع للمحبوب لونا من ألوان الذل أو الضعف، أو الضعة، ولا يجد فيه ما يتعارض مع الشجاعة، والشهامة؛ فإن شرع الحب يسمح للمحب أن يذل لمحبوبه، وأن يبدي له الخضوع والاستسلام، من غير أن ينقص هذا من شهامته أو يحط من كرامته:
فإذا ذللت لعزنا ولهت لهيـ ... ـبتك الملوك وهابك السلطان
فاخضع وذل لمن تحب فإنه ... حكم الهوى أن تخضع الشجعان
ولا عجب في هذا، فالمحبوب هنا هو رب عزيز، من ذل لعزه عز، ومن اتضع لرفعته سما وارتفع. ويتكرر هذا المعنى في موضع آخر من ديوانه، ولكن في صيغة أخرى؛ خمرية غزلية، يقول:
وادن من دن حمياها وقف ... وقفة المضطر يكفى إذ دنا
وإذا نوديت من هذا الذي ... لزم الباب ذليلا ؟ قل: أنا
ولعل في تلوين الأساليب الذي اتسم به شعر الرجل ما يسوغ له ذلك التكرار في المعاني، وما ينفي عن قارئه الشعور بالملل؛ فالتكرار إن لم يكن له ما يسوغه من عناصر الجدة في العرض فوقعه على النفوس سمج ثقيل.
3- الطرد والهجر والقطيعة بعد الوصال:
لعل أقسى ما يعرض للمحبين هو الطرد بعد القرب، والقطيعة بعد الوصال، ونجد في شعر المقدسي ونثره شكوى مرة وتفجعا وحسرة تدل على تعرضه لمثل هذه الحال، التي هي أشد ألما وقسوة وتأثيرا في نفس العاشق الواصل، الذي عرضت له القطيعة بعد أن ذاق لذاذات القرب والوصال، وهذا ما أشار إليه الشاعر بقوله:
فإن يرضيكمو طردي وبعدي ... فصبري في محبتكم جميل
وحق قديم أيام التصابي ... سلوي عن هواكم مستحيل
قطعت بوصلكم أيام أنسي ... فلا أسلو وقد بقي القليل
وهو يشبه هجر المحبوب بالسيف، وحاله في بعده عن الحبيب بالقتل، وأي قتل، إنه القتل العمد، فقد توافرت نية الحبيب على هجره، الذي هو سبب قتله وموته:
قتلت بسيف هجركم اعتمادا ... فإن ترضوا فقد رضي القتيل
وفي موضع آخر يشبهه بنار الجحيم مرة، وبالموت مرة أخرى، بعد أن شبه لذة الوصال التي كان يعيشها بنعيم الجنان:
قد كان يأوي إلى جنات وصلكمو ... بالهجر حر لهيب النار مأواه
يغشاه فرط غرام من تذكركم ... وإنه المبتلى في الحب ذكراه
ما ضركم لو بعثتم طيف وصلكم ... لميت الهجر حياه فأحياه
إن شاعرنا ليرى نار الجحيم أقل ضراوة من نار القطيعة، لا بل إنه يسوغ له الاحتراق بالنار، ويطيب حرها، ويحلو لهيبها في ناظريه، في حين لا تقوى نفسه على تحمل حر القطيعة وسموم الهجر، يقول في مخمس:
لو قلت: رد في النار، طاب جحيمها ... وحلا وحقك في هواك حميمها
إلا القطيعة لا أطيق أسومها ... فلقد براني حرها وسمومها
والهم داء برؤه لم ينجع
ولعل فترة القطيعة تلك قد طالت على صاحبنا، ما جعله يكثر النوح والبكاء وذرف الدموع، وينظم الأشعار الكثيرة، معبرا عما عاناه في تلك الفترة، وفي كتاب " كشف الأسرار عن حكم الطيور والأزهار " اتخذ من الطاووس رمزا لمقام الهجر بعد القرب، والقطيعة بعد الوصال، وعبر عن ذلك المعنى بقصيدة - على لسان الطاووس - بالغة التأثير، قال فيها:
وإذا ذكرت لياليا سلفت لنا ... في وصل أحبابي وظل ربوعي
فأكاد من حرقي أذوب صبابة ... لولا يجود علي فيض دموعي
ووعدتموني في الخيال بزورة ... فتضاعفت حرقي وزاد ولوعي
إن كان ذنبي صدني عن بابكم ... فإليكم فقري أعز شفيع
ماضي القطيعة لا يعاد وما جرى ... كاف وحسبي ذلتي وخضوعي
ويعقب المقدسي على الأبيات بقوله: [ فوالله لقد رثيت لمصابه، وبكيت لأوصابه، ولاشيء أنكى من الاغتراب بعد الاقتراب، ولا أمر من الحجاب، بعد مشاهدة الأحباب ].
ولعل هذا المقام هو عين ما سماه شيخ الصوفية الأكبر في " فتوحاته المكية " [ المنزل الذي يحط إليه الولي إذا طرده الحق تعالى من جواره ] وقدم له بهذه الأبيات التي تلخص معانيه وتبين سماته:
إذا حط الولي فليس إلا ... عروج وارتقاء في علو
فإن الحق لا تقييد فيه ... ففي عين النوى عين الدنو
فحال المجتبى في كل حال ... سمو في سمو في سمو
ويشبه ابن عربي تلك الحال بهبوط آدم من الجنة عقوبة له لمخالفته ربه ومقارفته ما نهاه عنه.
ولقد واجه المقدسي حال قطيعته بما ينبغي من الاعتراف بالذنب، والانكسار إلى الله سبحانه، والندم على
ما فرط في جنبه تعالى، والتزام الصبر، والوفاء بحقوق المولى، والمواظبة على طاعته، والحفاظ على عهده وحبه، وقد رأينا ذلك فيما مر من أشعاره، وفي كثير غيرها، كقوله:
هجرتم فيا لهف قلبي على ... زمان تقضى بطيب الوصال
مددت يدي مستغيثا بكم ... تشير إليكم بذل السؤال
ووجهت وجهي إلى بابكم ... فلا تحرموني ذاك الجمال
وأقسمت لا حلت عن عهدكم ... ولو ذقت فيكم أليم النكال
وإن تطردوني عن بابكم ... فحالي عن حبكم ما استحال
ويعبر هنا عن حفظه العهد، وبقائه على الحب، وتلهفه إلى أيام الوصال التي زالت وحرم نعيمها ولذاذاتها.
وفي مواطن أخرى نراه يقف موقف المعترف بالذنب، المقر بالتقصير، ولا يجد لنفسه حيلة إلا البكاء والندم على ما فات:
فإن عظمت مني ذنوب تكاثرت ... فعفوك عن تلك الجرائم أعظم
وقد غرني جهلي بقبح خطيئتي ... وقد دلني علمي بأنك أكرم
إذا كنت تقصيني وأنت ذخيرتي ... لمن أشتكي حالي ومن فيه يحكم
لئن كان طردي عن حماك محللا ... فميلي إلى مولى سواك محرم
وإن كان دمعي من صدودك شافعي ... فما حيلتي إلا البكا والتندم"
والحقيقة ان الشعر السابق لا يخلو من الاعتداء على دين الله بما فيه من مخالفات مثل الطيف والزورة والهجر فكلامه شبيه بشعر الصوفية وهم قوم اخترعوا وابتدعوا دينا غير ما فى كتاب الله ظنا منهم أنهم أحسن من باقى الناس مخالفين قوله " إنما المؤمنون اخوة " ومخالفين قوله " هو اعلم بمن اتقى"
رضا البطاوى- المساهمات : 1559
تاريخ التسجيل : 21/08/2020
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى